الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم
.الشبهة الثانية: قال: إن القسم المكي يمتاز بميزات الأوساط المنحطة أما القسم الثاني المدني فتلوح عليه أمارات الثقافة والاستنارة، فالقسم المكي ينفرد بالعنف والشدة والقسوة والسباب والوعيد والتهديد مثل: {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} السورة، {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ}، {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ}، {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} أما القسم المدني: فهادئ لين وديع مسالم يقابل السوء بالحسنى.وللرد على ذلك نقول:1- إن القسم المكي فيه ثقافة واستنارة أيضا، وفيه سمو ورفعة ووقار وجلال ولين، وهو إن قسا فعلى الكافرين والمفسدين، وإذا لان فللأخيار والصالحين وهو في كلا الحالين يدعو لخير الإنسانية جمعاء وعباراته مهذبة غاية التهذيب، وكيف لا يكون فيه ثقافة واستنارة وقد تحدث أكثر ما تحدث عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعن الفضائل والآداب الإنسانية السامية، وبحسبك أن تقرأ أي سورة من السور المكية لتعلم ذلك علم اليقين، ثم ماذا يريد هذا الطاعن بالسباب إن أراد البذاءة والفحش من القول فقد كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذبا، وإن أراد ما اشتمل عليه من الوعيد والإنذار والتقريع فهذا لا يسمى سبابا إلا في دماغ قائله، وكنا نحب من الناقد المخرب أن يربأ بنفسه وأدبه عن هذا الإسفاف في التعبير حينما يتحدث عن كتاب كالقرآن العظيم.2- دعواه أن القسم المكي اشتمل على الوعيد والشدة دون القسم المدني دعوى من لم يطلع على القرآن الكريم، أو اطلع ولكن أعمته عصبيته عن إدراك الحق المبين، فالقسم المدني اشتمل على الوعيد والإنذار كما أن القسم المكي اشتمل على الدعوة إلى اللين والعفو والصفح ومقابلة الإساءة بالإحسان.استمع إلى قول الحق تبارك وتعالى في سورة البقرة المدنية الآية 174: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}، وقوله في سورة ال عمران المدنية الآية 10: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}، وفي سورة النساء المدنية الآية 47: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} وفي سورة المائدة الآية 78- 81: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} الآيات، إلى غير ذلك من آيات الوعيد في القسم المدني، ثم استمع إلى ما جاء في السور المكية حثّا على اللين والعفو والتسامح؛ قال تعالى في سورة الأعراف المكية الآية 199: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ}، وقال في سورة فصلت المكية الآية 34- 35: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وفي سورة الشورى المكية الآية 36- 43: {فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} إلى قوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} فأيّ لين ووداعة بعد هذا وأي دعوة إلى الصبر والعفو والمغفرة تداني هذه الدعوة وهكذا نرى القرآن الكريم يسلك مسلك الوعيد والشدة متى اقتضى المقام ذلك ويسلك مسلك اللين والعفو والصفح إذا اقتضى الحال ذلك، وهذا هو الأسلوب الحكيم، ويرحم الله القائل:والقائل: 3- هذه السور والآيات التي ذكرها الطاعن ليس فيها رائحة سباب، ولو علم سبب النزول والمراد بالآيات لما رمى بهذه القولة الجائرة، وإليك ما ورد في سبب نزول سورة أبي لهب. أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عدي»، لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ» قالوا: نعم؛ ما جربنا عليك إلا صدقا قال: {إِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت: {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وأخرج ابن جرير أن امرأة أبي لهب كانت تأتي بأغصان الشوك فتطرحها في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل كانت تنقل الحديث وتمشي بالنميمة بين الناس؛ فالسورة إذا نزلت ردا على أبي لهب في دعائه على النبي، وإيذائه له، وإنذارا له ولزوجه بأنهما سيصليان النار الشديدة جزاء لهما على ما صنعا، ولا شك أن في هذا الوعيد ردعا لأبي لهب وزوجته وأمثالهما ممن يناهضون رسالات الرسل ويسعون في الأرض بالفساد ولا أدري في أي عرف أو ذوق يعتبر إنذار مثل هذا المعوق عن الخير والحق أمرا خارجا عن المألوف وسبابا وشدة وماذا كان ينتظر هذا الطاعن في الرد على أبي لهب وزوجته أكان ينتظر من منزل القرآن الحكيم أن يظهر له الرضا على مقالته ويقول له: بخ بخ فيزداد بطرا وأشرا!وأما سورة {والعصر} فليس فيها ما يشتم منه السباب، وليس فيها عنف ولا شدة وكل ما عرضت له السورة أن الناس قسمان:1- قسم ناج من الخسران والعذاب فائز برضوان الله، وهم الذين جمعوا عناصر السعادة الأربعة؛ وهي الإيمان بالله، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.2- قسم غارق في الخسران، مآله إلى الهلاك والعذاب، وهم الذين لا يقرون بإله ولا يدينون بشريعة ولا يعملون صالحا: فهم جراثيم شرور، ولا يتواصون بحق؛ فالحق بينهم مضيع، ولا يتواصون بصبر؛ فهم في هلع وجزع، ومما لا يقضى منه العجب أن يستشهد هذا الناقد بهذه السورة التي أقر بكفايتها وغنائها الأئمة في القديم والحديث؛ قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله: ثم تراها لم تدع شيئا إلا أحرزته في عباراتها الموجزة، حتى قال الإمام الشافعي رحمه الله: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم! أو قال: لو لم ينزل الله من القرءان سواها كلفت الناس ولجلالة ما جمعت روي أنه كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة {والعصر} ثم يسلم أحدهما على الآخر؛ ذلك ليذكّر كل منهما صاحبه بما يجب أن يكون عليه فإذا رأى منه شيئا ينبغي أن ينبه إليه فعليه أن يذكره له.وأما قوله تعالى في سورة الفجر: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ * إِنَ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ} فلا سباب فيه ولا عنف وكل ما فيه إخبار من الحق عز شأنه، بأن عادا وثمود وفرعون لما طغوا في البلاد وظلموا العباد وأكثروا من الفساد أنزل الله بهم العقاب جزاء لهم على ظلمهم وإفسادهم، فالمراد بصب السوط إنزال العقوبة الشديدة بهم، وهو من المجازات البديعة، ومعنى {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ} أنه القائم بتدبير الأمور الرقيب على عباده لا يفوته من شئونهم شيء وهو مجازي كل عامل بعمله فلا يفلت منه أحد، فلا يظن أهل الطغيان الذين يفسدون في الأرض أن يفلتوا من الله وعقابه، وفي هذا الإخبار تحذير للموجودين والمخاطبين أن يفعلوا مثل ما فعلوا فيعاقبوا مثل ما عوقبوا، فانظر- أيها القارئ الفطن- كيف اشتملت هاتان الآيتان على وجازتهما على هذه المعاني الثرية والتحذيرات النافعة المفيدة.وأما سورة {ألهاكم التكاثر} فغاية ما فيها أن يترك الناس التفاخر بالأحساب والأنساب والتكاثر بالأموال والأولاد والتلهي بما لا يفيد وأن يقبلوا على الاشتغال بما ينفع من الإيمان والعمل الصالح، أما التلهي بالتكاثر والتفاخر فلن يكون من ورائه إلا خسران الدنيا والآخرة، فلا عجب أن يردعهم الله، وأن يكرر الردع والزجر فقال: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}، ولو علم اللاهون المتكاثرون علم اليقين لأعرضوا عما فيهم، وأقبلوا على الأعمال الصالحة؛ لأنهم سيرجعون إليه في يوم يحاسبون فيه ويجازون على أعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} فالسورة لا تخرج عن كونها وعيدا وتحذيرا وإرشادا وتعليما. .الشبهة الثالثة: قال: إن القسم المكي يمتاز بالهروب من المناقشة، وبالخلو من المنطق والبراهين، فيقول: {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ} إلى {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} بخلاف القسم المدني فهو يناقش الخصوم بالحجة الهادئة والبرهان الساكن الرزين، فيقول: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا} ويستدل بهذا على تأثر القرآن بالبيئة والوسط، وغرضه التشكيك في أن القرآن من عند الله.وهذا الكلام منقوض بما يأتي:1- أنه لا يجرؤ على هذه المقالة إلا أحد رجلين: إما جاهل أغرق في جهله فلا يكاد يميز بين المكي والمدني، وإما زنديق أعمته زندقته عن إدراك الحق الظاهر، وقد سقط هذا الباحث الناقد والمفكر الجريء سقطة لا إقالة له منها، ولا يكاد يقع فيها الطلاب المبتدءون، فضلا عن الباحثين؛ ولو تناول مصحفا وأمر القارئ له أن يقرأ ما كتب قبل مفتتح سورة الأنبياء لوجد سورة الأنبياء مكية وآياتها 112، ولو تناول كتابا من كتب الفن لعلم أن سورة الأنبياء مكية بلا استثناء عند جمهور العلماء، وباستثناء آية {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِهَا} عند البعض، ومهما يكن من شيء فالآية التي استدل بها مكية بالإجماع، وكيف تتفق هذا السقطة التي لا تكون من مبتدئ، وما أضفاه على نفسه من الصفات الطنانة والعبارات الجوفاء الحق أنه قدم لنا الخنجر للإجهاز عليه.وأن نظرة بسيطة في السور المكية لترينا أنها استفاضت بالأدلة والبراهين القطعية؛ اقرأ إن شئت في إثبات الإله قوله تعالى في سورة الغاشية: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ...} [الغاشية: 17- 20] الآيات، وقوله تعالى في سورة الواقعة: {نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ} إلى قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 57- 74] وقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور: 35- 36].واقرأ أيضا في إثبات الوحدانية في سورة الأنبياء المكية: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا} [الأنبياء: 22]، ومهما أسهب الفلاسفة وعلماء الكلام في إقامة الأدلة والبراهين على الوحدانية فلن يخرجوا عن فلك هذه الآية على وجازتها وقصرها، وفي سورة المؤمنون المكية: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ} [المؤمنون: 91] الآية، وفي سورة النمل: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} إلى قوله: {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} [النمل: 60- 64]، وقوله تعالى في سورة الروم: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} إلى قوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ} [الروم: 20- 26].واقرأ إن شئت في التدليل على إمكان البعث في سورة يس المكية: {وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79- 83] إلى آخر السورة، وقوله تعالى في سورة الأحقاف المكية: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33].وكذلك يعرض القرآن في السور المكية لإثبات الرسالة بالمنطق السليم والحجج الدامغة، فيقول في جواب المشركين لما قالوا: {وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ} [الفرقان: 20]، ولما قالوا: {هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 7] قال في جوابهم: {وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7].ولو تتبعنا الأدلة والبراهين التي زخر بها القسم المكي لطال المقام، وبحسبنا هذا المقدار.أما ما ذكره الطاعن من سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فلا يصلح أن يكون دليلا، لأن السورة لم تسق مساق الدليل وإنما سيقت للرد على كفار قريش لما رغبوا إلى النبي أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة، فأنزل الله على نبيه هذه السورة تأييسا لهم وقطعا لأطماعهم، ولبيان أنهم قوم مخادعون، ولن تكون منهم عبادة لله الواحد القهار، وقد جاءت السورة على هذا النسق البديع: {لَا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ} نفى أن تقع منه عبادة لآلهتهم في الحال، ثم قال: {وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ} فأتى بالجملة الاسمية لإفادة أن عدم عبادته لآلهتهم فيما يستقبل ثابت مستمر ففيه قطع لأطماعهم على أبلغ وجه وآكده، ومثل هذه السورة سورة الإخلاص، فقد أجمل الله فيها العقيدة الخالصة من غير استدلال، لأنها نزلت جوابا للمشركين، أو اليهود؛ لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أنسب لنا ربّك؛ أي بيّن لنا ذاته وصفته، فأنزل الله السورة، ولا يعزب عن أذهاننا أن السورتين بمنزلة النتيجة لمئات الأدلة والبراهين التي أقامها الله على إثبات الصانع جل وعلا ووحدانيته وصفاته واستحقاقه التفرّد بالعبادة، ولعلّ من اللطائف وقوعها في الترتيب الكتابي في آخر القرآن كما تقع النتيجة من مقدماتها فلا عجب أن جاءتا على هذا الوضع.
|